الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم أكد حال الصم بقوله: {إذا ولوا مدبرين} لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبرًا كان أبعد عن إدراك صوته، {ولا يسمع الصُّمُّ} مكي وكذا في الروم {وَمَا أَنتَ تَهْدِى العمى} وكذا في الروم: حمزة {إِنْ تُسْمعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا} أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مخلصون من قوله: {بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] يعني جعله سالمًا لله خالصًا له.{وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} سمى معنى القول ومؤداه بالقول وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب، ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض تُكَلّمُهُمْ} هي الجساسة، في الحديث: طولها ستون ذراعًا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان.وقيل: لها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيّل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير، وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعًا تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية فتقول: {أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون} أي لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين.أو تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام، أو بأن هذا مؤمن وهذا كافر.وفتح {أن} كوفي وسهل على حذف الجار أي تكلمهم بأن، وغيرهم كسروا لأن الكلام بمعنى القول، أو بإضمار القول أي تقول الدابة ذلك ويكون المعنى بآيات ربنا أو حكاية لقول الله تعالى عند ذلك.ثم ذكر قيام الساعة فقال: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجًا} {من} للتبعيض أي واذكر يوم نجمع من كل أمة من الأمم زمرة {مّمَّن يُكَذّبُ} من للتبيين {بآياتنا} المنزلة على أنبيائنا {فَهُمْ يُوزَعُونَ} يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يساقون إلى موضع الحساب وهذه عبارة عن كثرة العدد، وكذا الفوج عبارة عن الجماعة الكثيرة {حتى إِذَا جَاءُو} حضروا موقف الحساب والسؤال {قَالَ} لهم تعالى تهديدًا {أكذبتم بآياتي} المنزلة على رسلي {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْمًا} الواو للحال كأنه قال: أكذبتم بآياتي بادىء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب {أَمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} حيث لم تتفكروا فيها فإنكم لم تخلقوا عبثًا.{وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} أي يغشاهم العذاب الموعود بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35].{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِرًا} حال، جعل الإبصار للنهار وهو لأهله والتقابل مراعى من حيث المعنى لأن معنى {مبصرًا} ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون فيعتبرون، وفيه دليل على صحة البعث لأن معناه ألم يعلموا أنا جعلنا الليل والنهار قوامًا لمعاشهم في الدنيا ليعلموا أن ذلك لم يجعل عبثًا بل محنة وابتلاء ولابد عند ذلك من ثواب وعقاب فإذا لكم يكونا في هذه الدار فلابد من دار أخرى للثواب والعقاب {وَيَوْمَ} واذكر يوم {يُنفَخُ في الصور} وهو قرن أو جمع صورة والنافخ إسرافيل عليه السلام {فَفَزِعَ مَن في السماوات وَمَن في الأرض} اختير {فزع} على يفزع للإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون {إِلاَّ مَن شَاء الله} إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام لأنه صعق مرة، ومثله {وَنُفِخَ في الصور فَصَعِقَ مَن في السماوات وَمَن في الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله} (الزمر: 68) {وَكُلٌّ أَتَوْهُ} حمزة وحفص وخلف، {اتوه} غيرهم وأصله آتيوه {داخرين} حال أي صاغرين ومعنى الإتيان حضورهم الموقف ورجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له.{وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا} بفتح السين: شامي وحمزة ويزيد وعاصم، وبكسرها: غيرهم حال من المخاطب {جَامِدَةً} واقفة ممسكة عن الحركة من جمد في مكانه إذا لم يبرح {وَهِىَ تَمُرُّ} حال من الضمير المنصوب في {تحسبها} {مَرَّ السحاب} أي مثل مر السحاب والمعنى أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لعظمها وهي تسير سيرًا سريعًا كالسحاب إذا ضربته الريح، وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تبين حركتها كما قال النابغة في صفة جيش:
{صُنْعَ الله} مصدر عمل فيه ما دل عليه {تمر} لأن مرورها كمر السحاب من صنع الله فكأنه قيل: صنع الله ذلك صنعًا وذكر اسم الله لأنه لم يذكر قبل {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شيء} أي أحكم خلقه {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} {يفعلون} مكي وبصري غير سهل وأبو بكر غير يحي، وغيرهم بالتاء أي أنه عالم بما يفعل العباد فيكافئهم على حسب ذلك.ثم لخص ذلك بقوله: {مَن جَاء بالحسنة} أي بقول لا إله إلا الله عند الجمهور {فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} أي فله خير حاصل من جهتها وهو الجنة، وعلى هذا لا يكون {خير} بمعنى أفضل ويكون {منها} في موضع رفع صفة ل {خير} أي بسببها {وَهُمْ مّن فَزَعٍ} كوفي أي من فزع شديد مفرط الشدة وهو خوف النار أو من فزع ما وإن قل، وبغير تنوين غيرهم {يَوْمَئِذٍ} كوفي ومدني، وبكسر الميم غيرهم والمراد يوم القيامة {ءامِنُونَ} أمن يعدى بالجار وبنفسه كقوله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] {وَمَن جَاء بالسيئة} بالشرك {فَكُبَّتْ} ألقيت {وُجُوهُهْم في النار} يقال كببت الرجل ألقيته على وجهه أي ألقوا على رءوسهم في النار، أو عبر عن الجملة بالوجه كما يعبر بالرأس والرقبة عنها أي ألقوا في النار ويقال لهم تبكيتًا عند الكب {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الشرك والمعاصي.{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة} مكة {الذى حَرَّمَهَا} جعلها حرمًا آمنًا يأمن فيها اللاجيء إليها ولا يختلي خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها {وَلَهُ كُلُّ شيء} مع هذه البلدة فهو مالك الدنيا والآخرة {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} المنقادين له.{وَأَنْ أَتلُوَا القرءان} من التلاوة أو من التلو كقوله: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} [الأحزاب: 2] أمر رسوله بأن يقول أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا اتخذ له شريكًا كما فعلت قريش، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام، وأن أتلو القرآن لأعرف الحلال والحرام وما يقتضيه الإسلام.وخص مكة من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأعظمها عنده وأشار إليها بقوله: {هذه} إشارة تعظيم لها وتقريب دالًا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما {فَمَنُ اهتدى} باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الشركاء عنه والدخول في الملة الحنيفية واتباع ما أنزل عليّ من الوحي {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ {وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} أي ومن ضل ولم يتبعني فلا عليّ وما أنا إلا رسول منذر {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} (العنكبوت) {وَقُلِ الحمد للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءاياته فَتَعْرِفُونَهَا} ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوة التي لا توازيها نعمة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم الله من آياته في الآخرة فيستيقنون بها.وقيل: هو انشقاق القمر والدخان وما حل بهم من نقمات الله في الدنيا {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء مدني وشامي وحفص ويعقوب خطاب لأهل مكة، وبالياء غيرهم أي كل عمل يعملونه فإن الله عالم به غير غافل عنه فالغفلة والسهو لا يجوزان عليه. اهـ.
|